فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} (النمل: 59)، إلى قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل: 64)، للسائل أن يسأل عن وجه الاختلاف فيما أعقبت به كل آية منها وإبداء التناسب في ذلك؟
والجواب، والله أعلم: أن الآية الأولى لما نبهوا فيها ذكروا بما تشهد العقول بديهيًا وتعترف بدلالته- إذ لا إشكال فيه- من أن السماوات والأرض تشهد بإحكام منعتها، وإتقان خلقها، وما أودع سبحانه فيها من العجائب والآيات المشاهدة للعيان، مع انسحاب التغير على جميعها وعلى ما فيها، بأن لها موجودًا أوجدها وأحكم صنعتها وإتقانها، وأنه لا يمكن أن أوجدت أنفسها ولا أوجدها غيرها مما يماثلها في شواهد الافتقار وانسحاب التغير، وذلك ما لا تنفك عنه سائر الموجودات فيشهد العقل بأن لها موجدًا من غير جنسها متعاليًا عن شبهها. إذ لو شبهها لافتقر إلى موجد آخر، فلبيان الأمر ما أعقبت هذه الآية الأولى بقوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل: 60)، أي أن الأمر غير خاف ولكنهم يعدلون عنه، وكذا قيل لهم في دعائهم إلى الإيمان في أول سورة البقرة حين ذكروا بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} (البقرة: 21) إلى قوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 22)، فهذا كقوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} من غي فرق، لما ذكروا في الموضعين بخلق السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات، وإنبات الحدائق العجيبة، وكانوا يتعرفون بخلقه سبحانه جميع ذلك {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (العنكبوت: 61)، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (العنكبوت: 63)، فاعترافهم بهذا ثم يجعلون له تعالى الند والشريك عدول واضح بعد قيام الحجو عليهم، فقيل هنا: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}.
ثم لما ذكروا بما هو أخفى في قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} (النمل: 61)، فإن تمهيد الأرض للسكني، وتفجير الأنهار خلالها، وحجز ما بين العذب والمالح من مياهها، ليس مما ظهور الاعتبار به وبيانه في الجلاء والوضوح كخلق السماوات والأرض وإنزال الماء إلى ما في الآية، فلما كان التذكير بما في الآية الثانية أخفى أُعقب هذا بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (النمل: 61)، ثم تدرج الاعتبار إلى ما هو أخفى فقيل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} (النمل: 62)، وخفاء الاعتبار بهذا واضح، ولا يحصل عليه إلا من أمعن النظر فيما تقدم قبله، فأعقب هذا لخفائه بقوله: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (النمل: 62)، ثم أعقب بما لا يمكن أن يتعاطاه أحد مع وضوح الأمر عند تدبره وهو قوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (النمل: 63)، ذلك مما لا يتصور فيه من العاقل التسليم، فأعقب بحسب ذلك والتفات ما قبله بقوله: {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل: 63)، ثم ختم ما قدم من هذه المعتبرات الجليلة بما لا يحصل الاعتبار إلا بعد إحكام النظر فيما قبله، والاعتراف بما يجب لله سبحانه من الاتصاف بالعلم والقدرة، إذ بهما وبقوبتها تَتِمُّ وتثبتت العةدة والبدأة، إلى ما يجب له سبحانه من الصفات العُلى التي يثمر العلم بثبوتها له سبحانه النظر التام الصحيح والاعتبار بما تقدم في الآيات قبل هذه، فلما كمل ذكر ما به يحصل الاعتراف والإيمان، ويستوضح منه أنه سبحانه المنفرد بالخلق والأمر والمالك للدارين، أعقب بطلب المعاند بالبرهان على ما يديعه، فقيل: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل: 64) أي إن صدقتم أن لله شريكًا في ملكه تعالى: {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل: 63)، فقد وضح أن كل معقب به آية من هذه الآيات، المذكر بها من استبصر والقاطعة بكل من أشرك وكفر، جار على أوضح مناسبة. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}.
هم الذين سَلَّم عليهم في آزاله وهم في كتم العَدَمِ، وفي متناول علمه ومتعلق قدرته، ولم يكونوا أعيانًا في العَدَم ولا أفادوا، فلمَّا أظهرهم في الوجود سَلَّم عليهم بذلك السلام، ويُسْمِعُهم في الآخرة ذلك السلام. والذين سَلَّم عليهم هم الذين سَلِمُوا اليومَ من الشكوك والشُّبَهِ، ومن فنون البِدَعِ، ومن وجوه الألم، ثم من فنون الزَّلَلِ وصنوفِ الخَلَلِ، ثم من الغيبة والحجبة وما ينافي دوام القربة.
ويقال اصطفاهم، ثم هداهم، ثم آواهم، وسَلَّم عليهم قبل أَنْ خَلَقَهم وأبداهم، وبعد أن سَلَّم عليهم بودِّه لَقَّاهم.
ويقال: اصطفاهم بنورِ اليقين وحُلَّةِ الوَصْلِ وكمالِ العَيْش.
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَآ}.
فثمراتُ الظاهرِ غذاءُ النفوس، وثمراتُ الباطِن والأسرار ضياءُ القلوبِ، وكما لا تبقى في وقت الربيع من وحشة الشتاءِ بقيةٌ فلا يبقى في قلوبهم وأوقاتهم من الغيبةِ والحجبةِ والنفرةِ والتهمةِ شَظِيَّة.
قوله جلّ ذكره: {أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ}.
نفوسُ العابدين قرارُ طاعتهم، وقلوبُ العارفين قرار معرفتهم، وأرواح الواجدين قرار محبتهم، وأسرار الموحِّدين قراب مشاهدتهم، في أسرارهم أنوار الوصله وعيون القربة، وبها يسكن ظمأُ اشتياقهم وهيجانُ قَلَقِهم واحتراقِهم.
{وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ} من الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة.
ويقال: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ} اليقين والتوكل.
ويقال الرواسي في الأرض الأبدالُ والأولياء والأوتاد؛ بهم يديم إمساكَ الأرض، وببركاتهم يَدْفَعُ عن أهلها البلاء.
ويقال الرواسي هم الأئمة الذين يَهْدُون المسترشدين إلى الله.
قوله جلّ ذكره: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
{وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} بين القلب والنفس لئلا يغلب أحدُهما صاحبَه. ويقال بين العبودية وأحكامها، والحقيقة وأحكامها، فلو غَلَبَتْ العبوديةُ كان جَحْدًا للحقيقة، ولو غلبت الحقيقةُ العبوديةَ كانت طَيًّا للشريعة.
ويقال: ألْسِنَةُ المريدين مَقَرُّ ذكره، وأسماعُهم مَحلُّ الإدراك الموصِّل إلى الفهم، والعيون مقر الاعتبار. اهـ.

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى}.
وأما السؤال السابع عشر وهو أن قوله: {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى} النمل 59 هل السلام من الله تعالى فيكون المأمور به الحمد والوقف التام عليه أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعا؟
فالجواب عنه أن الكلام يحتمل الأمرين ويشهد لكل منهما ضرب من الترجيح فيرجح كونه داخلا في جملة القول بأمور:
منها اتصاله به وعطفه عليه من غير فاصل وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعا على كل واحد منهما هذا هو الأصل ما لم يمنع منه مانع ولهذا إذا قلت الحمد لله وسبحان الله فإن التسبيح هنا داخل في المقول.
ومنها أنه إذا كان معطوفا على المقول كان عطف خبر على خبر وهو الأصل ولو كان منقطعا عنه كان عطفا على جملة الطلب وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب.
ومنها أن قوله: {قل الحمد وسلام على عباده الذين اصطفى} ظاهر في أن المسلم هو القائل الحمد لله ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة ولم يقل سلام على عبادي.
ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور أحدها مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى كقوله سلام على نوح في العالمين سلام على إبراهيم سلام على موسى وهارون سلام على آل ياسين.
ومنها أن {عباده الذين اصطفى} هم المرسلون والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه وسلامه عليهم وبين حمده لنفسه وسلامه عليهم أما الأول فقال تعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين} [الصافات: 181- 182] وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله ثم سلامه على رسله.
وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع فإنه نزه نفسه تنزيها مطلقا كما نزه نفسه عما يقول خلقه فيه ثم سلم على المرسلين وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم المخالفون لهم وإذا سلموا من كل ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد وأعظم ما جاءوا به التوحيد ومعرفة الله ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد فهو الحق المحض وما خالفه هو الباطل والكذب المحال وهذا المعنى بعينه في قوله: {قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى} فإنه يتضمن حمده بما له من نعوت الكمال وأوصاف الجلال والأفعال الحميدة والأسماء الحسنى وسلامة رسله من كل عيب ونقص وكذب وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به من كل باطل فتأمل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه فهذا يشهد لكون السلام هنا من الله تعالى كما هو في آخر الصافات.
وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره فمنه قوله تعالى: {قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان} الأنبياء 112 وقوله: {وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين} المؤمنون 118 وقوله: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} الأعراف 89 ونظائره كثيرة جدا.
وفصل الخطاب في ذلك أن يقال الآية تتضمن الأمرين جميعا وتنتظمهما انتظاما واحدا فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه وليس فيه إلا البلاغ والكلام كلام الرب تبارك وتعالى فهو الذي حمد نفسه وسلم على عباده وأمر رسوله بتبليغ ذلك فإذا قال الرسول الحمد لله وسلام على عباده الذي اصطفى كان قد حمد الله وسلم على عباده بما حمد به نفسه وسلم به هو على عباده فهو سلام من الله ابتداء ومن المبلغ بلاغا ومن العباد اقتداء وطاعة فنحن نقول كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى {الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى}.
ونظير هذا قوله تعالى: {قل هو الله أحد} الإخلاص 1 فهو توحيد منه لنفسه وأمر للمخاطب بتوحيده فإذا قال العبد قل هو الله أحد كان قد وحد الله بما وحد به نفسه وأتى بلفظة قل تحقيقا لهذا المعنى وأنه مبلغ محض قائل لما أمر بقوله والله أعلم.
وهذا بخلاف قوله: {قل أعوذ برب الفلق} الفلق 1 {وقل أعوذ برب الناس} الناس 1 فإن هذا أمر محض بإنشاء الإستعاذة لا تبليغ لقوله: {أعوذ برب الناس} فإن الله لا يستعيذ من أحد وذلك عليه محال بخلاف قوله: {قل هو الله أحد} فإنه خبر عن توحيده وهو سبحانه يخبر عن نفسه بأنه الواحد الأحد فتأمل هذه النكتة البديعة والله المستعان. اهـ.